فصل: تفسير الآية رقم (11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (11):

{كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)}
{كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ} الدأب العادة والشأن، وأصله من دأب في الشيء دأبًا ودءوبًا إذا اجتهد فيه وبالغ أي حال هؤلاء في الكفر واستحقاق العذاب كحال آل فرعون فالجار والمجرور خبر لمبتدأ محذوف، والجملة منفصلة عما قبلها متسأنفة استئنافًا بيانيًا بتقدير ما سبب هذا على ما قاله بعد المحققين. ومن الناس من جوز أن يكون الجار متعلقًا حذوف وقع صفة لمصدر {تغني} [آل عمران: 10] أي إغناء كائنًا كعدم إغناء، أو بوقود أي توقد بهم كما توقد بأولئك ولا يخفى ما في الوجهين أما الأول: فقد قال فيه أبو حيان: إنه ضعيف للفصل بين العامل والمعمول بالجملة التي هي، و{أولئك} إلخ إذا قدرت معطوفة، فإن قدرت استئنافية وهو بعيد جاز. وأما الثاني: فقد اعترضه الحلبي بأن الوقود على المشهور الأظهر فيه اسم لما يوقد به وإذا كان اسمًا فلا عمل له. فإن قيل إنه مصدر كما في قراءة الحسن صح لكنه لم يصح وأورد عليهما معًا أنهما خلاف الظاهر لأن المذكور في تفسير الدأب إنما هو التكذيب والأخذ من غير تعرض لعدم الإغناء لاسيما على تقدير كون {مِنْ} بدلية ولا لإيقاد النار فليفهم {والذين مِن قَبْلِهِمْ} وهم كفار الأمم الماضية فالضمير لآل فرعون، وقيل: للذين كفروا، والمراد بالموصول معاصرو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{كَذَّبُواْ بآيَاتنَا} تفسير لدأبهم الذي فعلوا على سبيل الاستئناف البياني، والمراد بالآيات إما المتلوة في كتب الله تعالى أو العلامات الدالة على توحيد الله تعالى وصدق أنبيائه عليهم الصلاة والسلام {فَأَخَذَهُمُ الله} تفسير لدأبهم الذي فعل بهم أي فعاقبهم الله تعالى ولم يجدوا من بأس الله تعالى محيصًا، وقيل: إن جملة {كَذَّبُواْ} إلخ في حيز النصب على الحال من {فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ} بإضمار قد، ويجوز على بعد أن تكون في حيز الرفع على أنها خبر عن الذين والالتفات للتكلم أولًا: في آياتنا للجري على سنن الكبرياء، وإلى الغيبة ثانيًا: بإظهار الجلالة لتربية المهابة وإدخال الروعة. {بِذُنُوبِهِمْ} أي بسببها أو متلبسين بها غير تائبين، والمراد من الذنوب على الأول: التكذيب بالآيات المتعددة، وجيء بالسببية تأكيدًا لما تفيده الفاء، وعلى الثاني: سائر الذنوب، وفي ذلك إشارة إلى أن لهم ذنوبًا أخر، وأصل الذنب التلو والتابع، ثم أطلق على الجريمة لأنها يتلو أي يتبع عقابها فاعلها {والله شَدِيدُ العقاب} لمن كفر بآيات، والجملة تذييل مقررة لمضمون ما قبلها من الأخذ.

.تفسير الآية رقم (12):

{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)}
{قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ} روى أبو صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن يهود أهل المدينة قالوا لما هزم الله تعالى المشركين يوم بدر: هذا والله النبي الأمي الذي بشرنا به موسى عليه الصلاة والسلام ونجده في كتابنا بنعته وصفته وأنه لا يرد له راية وأرادوا تصديقه واتباعه ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى تنظروا إلى وقعة له أخرى فلما كان يوم أحد ونكب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوا وقالوا: لا والله ما هو به وغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة فنقضوا ذلك العهد وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبًا إلى أهل مكة أبي سفيان وأصحابه فوافقوهم وأجمعوا أمرهم وقالوا: لتكونن كلمتنا واحدة ثم رجعوا إلى المدينة فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.
وأخرج ابن جرير وابن إسحاق والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضًا «أن رسول الله لما أصاب ما أصاب من بدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال: يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله تعالى بما أصاب قريشًا فقالوا: يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرًا من قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تكن مثلنا» فأنزل الله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} إلى قوله سبحانه: {لاِوْلِى الابصار} [آل عمران: 13] فالمراد من الموصول اليهود، والسين لقرب الوقوع أي تغلبن عن قريب وأريد منه في الدنيا، وقد صدق الله تعالى وعده رسوله صلى الله عليه وسلم فقتل كما قيل من بني قريظة في يوم واحد ستمائة جمعهم في سوق بني قينقاع وأمر السياف بضرب أعناقه وأمر بحفر حفيرة ورميهم فيها وأجلى بني النضير وفتح خيبر وضرب الجزية عليهم وهذا من أوضح شواهد النبوة {وَتُحْشَرُونَ} عطف على {سَتُغْلَبُونَ} والمراد في الآخرة {إلى جَهَنَّمَ} وهي غاية حشرهم ومنتهاه فإلى على معناها المتبادر، وقيل: عنى في والمعنى أنهم يجمعون فيها، والآية كالتوكيد لما قبلها فإن الغلبة تحصل بعدم الانتفاع بالأموال والأولاد، والحشر إلى جهنم مبدأ كونهم وقودًا لها، وقرأ أهل الكوفة غير عاصم سيغلبون ويحشرون بالباء، والباقون بالتاء، وفرق بين القراءتين بأن المعنى على تقدير تاء الخطاب أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم من عند نفسه ضمون الكلام حتى لو كذبوا كان التكذيب راجعًا إليه، وعلى تقدير ياء الغيبة أمره بأن يؤدي ما أخبر الله تعالى به من الحكم بأنه سيغلبون بحيث لو كذبوا كان التكذيب راجعًا إلى الله تعالى، وقوله سبحانه: {وَبِئْسَ المهاد} إما من تمام ما يقال لهم أو استئناف لتهويل جهنم وتفظيع حال أهلها، ومهاد كفراش لفظًا ومعنى، والمخصوص بالذم مقدر وهو جهنم، أو ما مهدوه لأنفسهم.

.تفسير الآية رقم (13):

{قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)}
{قَدْ كَانَ لَكُمْ} من تتمة القول المأمور به جيء به لتقرير مضمون ما قبله وتحقيقه والخطاب لليهود أيضًا واختاره شيخ الإسلام وذهب إليه البلخي أي قد كان لكم أيها اليهود المغترون بعددهم وعددهم {ءايَةً} أي علامة عظيمة دالة على صدق ما أقول لكم أنكم ستغلبون {فِي فِئَتَيْنِ} أي فرقتين أو جماعتين من الناس كانت المغلوبة منهما مدلة بكثرتها معجبة بعزتها فأصابها ما أصابها {التقتا} يوم بدر {فِئَةٌ تقاتل فِي سَبِيلِ الله} فهي في أعلى درجات الإيمان ولم يقل مؤمنة مدحًا لهم بما يليق بالمقام ورمزًا إلى الاعتداد بقتالهم، وقرئ يقاتل على تأويل الفئة بالقوم أو الفريق {وأخرى كَافِرَةٌ} بالله تعالى فهي أبعد من أن تقاتل في سبيله وإنما لم توصف بما يقابل صفة الفئة الأولى إسقاطًا لقتالهم عن درجة الاعتبار وإيذانًا بأنه لم يتصدوا له لما عراهم من الهيبة الوجل، و{كَانَ} ناقصة وعليه جمهور المعربين و{ءايَةً} اسمها وترك التأنيث في الفعل لأن المرفوع غير حقيقي التأنيث ولأنه مفصول ولأن الآية والدليل عنى، وفي الخبر وجهان: أحدهما {لَكُمْ} و{فِي فِئَتَيْنِ} نعت لآية والثاني أن الخبر هو هذا النعت و{لَكُمْ} متعلق بـ {كَانَ} على رأي من يرى ذلك، وجوز أن يكون {لَكُمْ} في موضع نصب على الحال وقد تقدم مرارًا أن وصف النكرة إذا قدم عليها كان حالًا و{التقتا} في حيز الجر نعت لفئتين وفئة خبر لمحذوف أي إحداهما فئة وأخرى نعت لمقدر أي وفيه أخرى والجملة مستأنفة لتقرير ما في الفئتين من الآية، وقيل: فئة وما عطف عليها بدل من الضمير في {التقتا} وما بعدهما صفة فلابد من ضمير محذوف عائد إلى المبدل منه مسوغ لوصف البدل بالجلة العارية عن ضمير أي فئة منهما تقاتل إلخ، وجوز أن يكون كل من المتعاطفين مبتدأ وما بعدهما خبر أي فئة منهما تقاتل إلخ، وفئه أخرى كافرة، وقيل: كل منهما مبتدأ محذوف الخبر أي منهما فئة إلخ، وقرئ {وأخرى} كافرة بالنصب فيهما وهو على المدح في الأولى والذم في الثاني، وقيل: على الاختصاص، واعترضه أبو حيان بأن المنصوب عليه لا يكون نكرة، وأجيب بأن القائل لم يعن الاختصاص المبوب له في النحو كما في «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» وإنما عنى النصب بإضمار فعل لائق وأهل البيان يسمون هذا النحو اختصاصًا كما قاله الحلبي وجوز أن يكونا حالين كأنه قيل: التقتا مؤمنة وكافرة، وفئة وأخرى على هذا توطئة للحال، وقرئ بالجر فيهما على البدلية من {فئتين} بدل بعض من كل والضمير العائد إلى المبدل منه مقدر على نحو ما مر ويسمى بدلًا تفصيليًا كما في قوله:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ** ورجل رماها صائب الحدثان

وقوله سبحانه: {يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ} في حيز الرفع صفة للفئة الأخيرة أو مستأنفة مبينة لكيفية الآية. والمراد كما قال السدي: ترى الفئة الأخيرة الكافرة الفئة الأولى المؤمنة مثل عدد الرائين وقد كانوا تسعمائة وخمسين مقاتلًا كلهم شاكو السلاح، وعن علي كرم الله تعالى وجهه، وابن مسعود كانوا ألفًا وسقف بيت حلهم وربطهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وفيهم من صناديد قريش ورؤساء الضلال أبو جهل وأبو سفيان وغيرهما، ومن الإبل والخيل سبعمائة بعير ومائة فرس، روى محمد بن الفرات عن سعيد بن أوس أنه قال: أسر المشركون رجلًا من المسلمين فسألوه كم كنتم؟ قال: ثلثمائة وبضعة عشر قالوا: ما كنا نراكم إلا تضعفون علينا وأرادوا ألفًا وتسعمائة وهو المراد من {يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ} وزعم الفراء أنه يحتمل إرادة ثلاثة أمثالهم لأنك إذا قلت: عندي ألف وأحتاج إلى مثليها فإنما تريد إلى ألفين مضافين إليها لا بدلًا منها فهم كانوا يرونهم ثلاثة أمثالهم، وأنكر هذا الوجه الزجاج لمخالفته لظاهر الكلام، أو مثلي عدد المرئيين أي ستمائة ونيفًا وعشرين حيث كانوا عدة المرسلين سبعة وسبعون رجلًا من المهاجرين ومائتا وستة وثلاثون من الأنصار وكان صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين عليّ الكرار كرم الله تعالى وجهه، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة وكان معهم من الإبل سبعون بعيرًا، ومن الخيل فرسان فرس للمقداد بن عمرو، وفرس لمرثد بن أبي مرثد، ومن السلاح ست أدرع وثمانية سيوف وكان أكثرهم رجالة، واستشهد منهم يومئذ أربعة عشر رجلًا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار وقد مرت إليه الإشارة وإنما أراهم الله تعالى كذلك مع أنهم ليسوا كذلك ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم وهو نوع من التأييد والمدد المعنوي وكان ذلك عند تداني الفئتين بعد أن قللهم الله تعالى في أعينهم عند الترائي ليجترءوا عليهم ولا يرهبوا فيهربوا حيث ينفع الهرب، وذهب جماعة من العلماء إلى أن المراد ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة مثلي أنفسهم مع كونهم ثلاثة أمثالهم ليثبتوا ويطمئنوا بالنصر الموعود في قوله تعالى: {فَإِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} [الأنفال: 66] قال شيخ الإسلام مولانا مفتي الديار الرومية: والأول: هو أولى لأن رؤية المثلين غير متعينة من جانب المؤمنين بل وقد وقعت رؤية المثل بل أقل منه أيضًا فإنه روي أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ثم نظرنا إليهم فلما رأيناهم يزيدون علينا رجلًا واحدًا ثم قللهم الله تعالى أيضًا في أعينهم حتى رأوهم عددًا يسيرًا أقل من أنفسهم قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة فأسرنا منهم رجلًا فقلنا كم كنتم؟ قال: ألفًا فلو أريد رؤية المؤمنين المشركين أقل من عددهم في نفس الأمر كما في الأنفال لكانت رؤيتهم إياهم أقل من أنفسهم أحق بالذكر في كونها آية من رؤيتهم مثليهم على أن إبانة آثار قدرة الله تعالى وحكمته للكفرة بإراءتهم القليل كثيرًا والضعيف قويًا وإلقاء الرعب في قلوبهم بسبب ذلك أدخل في كونها آية لهم وحجة عليهم وأقرب إلى اعتراف المخاطبين بذلك لكثرة مخالطتهم للكفرة المشاهدين للحال وكذا تعلق الفعل بالفاعل أشد من تعلقه بالمفعول فجعل أقرب المذكورين السابقين فاعلًا وأبعدهما مفعولًا سواء جعل الجملة صفة أو مستأنفة أولى من العكس انتهى.
ويمكن أن يقال من طرف الجمهور الذاهبين إلى أن المراد رؤية المؤمنين المشركين مثلي أنفسهم بأنه التفسير المأثور عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، ولا نسلم أن رؤيتهم إياهم أقل من أنفسهم أحق بالذكر في كونها آية من رؤيتهم مثليهم لجواز أن تكون الآية والعلامة لليهود على أنهم سيغلبون قتال المؤمنين لهؤلاء المشركين وغلبتهم عليهم مع وجود السبب العادي للجبن وهو رؤية المؤمنين إياهم أكثر من أنفسهم وأوفر من عددهم فكأنه قيل: يا معشر اليهود تحققوا قتال المسلمين لكم وغلبتهم عليكم ولا تغتروا بعلمهم بقلتهم وكثرتكم فإنهم يقدمون على قتال من يرونه أكثر منهم عددًا ولا يجبنون ولا يهابون وينتصرون فما ذاك إلا لأن الله تعالى قد ملأ قلوبهم إيمانًا وشدة على من خالفهم وأحاطهم بتأييده ونصره ووعدهم الوعد الجميل.
لا يقال: إن الأوفق لهذا الغرض أن يرى المؤمنون المشركين على ما هم عليه من كون المشركين ثلاثة أمثالهم أو يرونهم أكثر من ذلك لأن إقدامهم حينئذٍ على قتالهم أدل على سبب الغلبة على اليهود لأنا نقول: نعم الأمر كما ذكر إلا أن هذه الرؤية لوفائها بالمقصود مع تضمنها مدح المؤمنين بالثبات الناشئ من قوة الإيمان بالنصر الموعود آخرًا بقوله تعالى: {فَإِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} [الأنفال: 66] اختيرت على ما ليس فيها إلا أمر واحد غير متضمن لذلك المدح المخصوص وعلى هذا لا يحتاج إلى التزام كون التثنية مجازًا عن التكثير كما في قوله تعالى: {ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] ولا إلى القول بأن ضمير {مّثْلَيْهِمْ} راجع إلى الفئة الأخيرة أي ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة مثلي عدد الفئة الكافرة أعني قريبًا من ألفين وإن ذهب إلى ذلك البعض ويرد أيضًا على قوله: على أن إبانة إلخ بعد تسليم أن الإراءة نفسها كانت هي الآية أن إراءة القليل كثيرًا لم تقع لليهود المخاطبين بصدر الآية لتكون إبانة آثار قدرته تعالى بذلك أدخل في كونها آية لهم وحجة عليهم وكون ذلك أقرب لاعترافهم لكثرة مخالطتهم الكفرة الرائين يتوقف على أن الرائين قد أخبروهم بذلك وأنهم صدقوا به ولم يحملوه على أنه خيل لهم لخوفهم بسبب عدم علمهم بالحرب والخائف يخيل إليه أن أشجار البيداء شجعان شاكية، وأسد ضارية وإثبات كل من هذه الأمور صعب على أن فيما روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن اليهود قالوا له صلى الله عليه وسلم بعد تلك الواقعة: لا يغرنك أنك لقيت قومًا أغمارًا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة ولئن قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس ما يشعر في الجملة بأنهم لو أخبروهم بذلك وصدّقوا لحملوه على نحو ما ذكرنا، وما ذكر من أن تعلق الفعل بالفاعل أشد إلخ، فمسلم إلا أنا لا نسلم أنه يستدعي أولوية جعل أول المذكورين السابقين فاعلًا وأبعدهما مفعولًا من العكس مطلقًا بل ذلك إذا لم يكن في العكس معنى لطيف تحسن مراعاته نظرًا للمقام وهنا قد كان ذلك لاسيما وقد سبق مدح الفئة الأولى بالمقاتلة في سبيل الله تعالى وعدل عن مدحهم بالإيمان الذي هو الأساس إليه ولا شك أن مقاتلتهم للمشركين مع رؤيتهم إياهم أكثر من أنفسهم ومثليهم أمدح وأمدح كما لا يخفى، وقرأ نافع ويعقوب ترونهم بالتاء واستشكلت على تقدير كون الخطاب لليهود بأنهم لم يروا المؤمنين مثلي أنفسهم ولا مثلي الكافرين ولم يروا الكافرين أيضًا مثلي أنفسهم ولا مثلي المؤمنين، وأجيب بأنه يصح أن يقال: إنهم رأوا المؤمنين مثلي أنفسهم أو مثلي الكافرين على سبيل المجاز حيث نزلت رؤية المشركين منزلة رؤيتهم لما بينهم من الاتحاد في الكفر والاتفاق في الكلمة لاسيما بعد ما وقع بينهم بواسطة كعب بن الأشرف من العهد والميثاق فأسندت الرؤية إليهم مبالغة في البيان وتحقيقًا لعروض مثل تلك الحالة لهم، وكذا يصح أن يقال: إنهم رأوا حقيقة الكافرين مثلي المؤمنين، وتحمل الرؤية على العلم والاعتقاد الناشئ عن الشهرة والتواتر ويلتزم كون الآية لهم قتال المؤمنين الكافرين وغلبة الأولين الآخرين مع كونهم أكثر منهم إلا أنه اقتصر على أقل اللازم ويعلم منه كون قتال المؤمنين وغلبتهم على الفئة الكافرة مع كونها ثلاثة أمثالهم في نفس الأمر المعلوم لهم أيضًا آية من باب أولى.
ولما في هذين الجوابين كيفما كان التزم بعضهم كون الخطاب من أول الأمر للمشركين ليتضح أمر هذه القراءة وأوجب عليه أن يكون قوله سبحانه: {قَدْ كَانَ لَكُمْ} خطابًا لهم بعد ذلك ولا يكون داخلًا تحت الأمر بناءًا على أن الوعيد كان بوقعة بدر ولا معنى للاستدلال بها قبل وقوعها، وجعل ذلك داخلًا في مفعول الأمر إلا أنه عبر عن المستقبل بلفظ الماضي لتحقق وقوعه لا يخلو عن شيء، وجعل بعضهم الخطاب في قراءة نافع للمؤمنين والتزم كون الخطاب السابق لهم أيضًا على أنه ابتداء خطاب في معرض الامتنان عليهم بما سبق الوعد به، وقيل: إنه لجميع الكفرة، وقال بعض أئمة التحقيق: القول بأن الخطاب عام للمؤمنين واليهود ومشركي مكة هو الذي يقتضيه المقام لئلا يقتطع الكلام ويقع التذييل بقوله سبحانه: {والله يُؤَيّدُ} إلخ موقع المسك في الختام، ثم إن من عد التعبير عن جماعة بطريق من الطرق الثلاثة مع التعبير بعد عن البعض بطريق آخر يخالفه منها من الالتفات قال بوجوده في الآية على بعض احتمالاتها، ومن لم يعد ذلك منه كما هو الظاهر أنكر الالتفات فيها وبهذا يجمع بين أقوال الناظرين في الآية من هذه الحيثية واختلافهم في وجود الالتفات وعدمه فيها فأمعن النظر فإنه لمثل هذا المبحث كله يدخر.
وقرأ ابن مصرف يرونهم على البناء للمفعول بالياء والتاء أي يريهم الله تعالى ذلك بقدرته {رَأْىَ العين} مصدر مؤكد ليرونهم على تقدير جعلها بصرية فمثليهم حينئذٍ حال، ويجوز أن يكون مصدرًا تشبيهيًا على تقدير جعلها علمية اعتقادية أي رأيا مثل رأي العين فمثليهم حينئذٍ مفعول ثان، وقيل: إن رأى منصوب على الظرفية أي في رأي العين {والله} المتصف بصفات الجمال والجلال {يُؤَيّدُ} أي يقوي {بِنَصْرِهِ} أي بعونه، وقيل: بحجته وليس بالقوى {مَن يَشَآء} أن يؤيده من غير توسط الأسباب المعتادة كما أيد الفئة المقاتلة في سبيله وهو من تمام القول المأمور به {إِنَّ فِي ذَلِكَ} المذكور من النصر، وقيل: من تلك الرؤية {لَعِبْرَةً} أي اتعاظًا ودلالة، وهي فعلة من العبور كالركبة والجلسة وهو التجاوز، ومنه عبرت النهر وسمي الاتعاظ عبرة لأن المتعظ يعبر من الجهل إلى العلم ومن الهلاك إلى النجاة، والتنوين للتعظيم أي عبرة عظيمة كائنة {لاِوْلِى الابصار} جمع بصر عنى بصيرة مجازًا أو عناه المعروف أي لذوي العقول والبصائر أو لمن أبصرهم ورآهم بعيني رأسه، وهذه الجملة إما من تمام الكلام الداخل تحت القول مقررة لما قبلها بطريق التذييل وإما واردة من جهته تعالى تصديقًا لمقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.